التسول من الشارع إلى أروقة الفايسبوك
كنت منذ سنوات أتعجب من ظاهرة التسول الّتي انتشرت بكثرة انتشار النار في الهشيم وكنت أشاهدها بحيرة كيف لا؟! وأغلب هؤلاء قادرون جسديا على العمل وتحصيل قوتهم اليومي دون عناء "الطلبة" وإذلالاها المتكرر.
المثير أن هؤلاء أو البعض منهم كان يصر على مساومتك في ما قد تجود به، حين يسألك رغيف خبز أو قارورة ماء أو غيرها، لا يرديها عينية وإنما يساومك لأخذ ثمنها نقدا وإن أصررت على شرائها بنفسك وتقديمها له يستكبر ويدير عنك وجهه ويذهب.
اللافت أيضا وجود الأطفال القصر والرضع في أحضان أمهات( أشك أحيانا أنهن لسن أمهاتهم) وتلك المناشادات الحادة والمبالغ فيها حتى تقطع نياط قلبك وتهز أركانك، فحين تستمع لإحداهن وهي تستعرض موهبتها في فن استدرار العواطف والضغط القلبي الذي تمارسه على إحساسك وفؤادك لتقود يدك صاغرة إلى ثنايا جيبك فتمدها بما جاد به عطفك ورحمتك لهذه "الأم" المعذبة ولطفلها اليتيم( أغلب صرخاتهن المؤلمة أنّ أطفالهن أيتام وبلا عائل) تتبين أنها نغمات محفوظة ومتكررة فما أن تبتعد عن هذه الّتي يُتِّمَ طفلها حتى تعترضك أخرى تعيد نفس المشهد والكلمات وكأنها عملية استنساخ دون آلات مستنسخة فقط النغمة مكررة والترنيمة هي ذاتها.
وهذا ما يدفعني للتساؤل والحيرة فعلا، أإلى هذا الحد بلغ شضف العيش بالتونسي؟ أإلى حد امتهان كرامته والجود بها لقاء ملاليم لا تسد الرمق؟
لم يطل بحثي كثيرا عن إجابات للأسئلة فمنذ سنوات وبمذكرة من وكالة الجمهورية في صفاقس وبعد أن شك الجيران في موت جارة لهم كان عملها الوحيد التسول تم اقتحام منزلها والعثور على الكنز الذي كانت تجمعه من عملها اليومي وقدر مجموع ما عثر عليه بعد وفاتها ب٣٠٠ ألف دينار تونسي ومنها قدرت واستنتجت لمَ يرحب هؤلاء بالتسول عملا يوميا ويرفضون العمل المضني ذو الدخل المحدود.
إن هؤلاء استمرؤوا هذا الذل المدر للدارهم على العمل الجاد وقليل التوفير فأصبحوا لا يهتمون بشتائم الناس ونهرهم والاشمئزاز منهم، لقد استعذبوا المدخول وتنازلوا طواعية على انسانيتهم لقاء تلك الدراهم البائسة.
وعلى حسب ما يشاع وحتى أنني شاهدت فلما قصيرا يتحدث عن الظاهرة وأحد المسلسلات أيضا قام بالبحث فيها فإنه أصبح قطاعا منظما تقودهم أياد خفية، تجمع الأطفال القصر والنساء لتفرقهم في مجموعات تحترف التسول ولقاء هذا العمل ينالون أجرا بسيطا ويذهب كل ما جمعوه للمستكرش صاحب البدلة والوجه المستدير المتلألئ بالكريمات والفازلين.( حسب ما صورته الافلام طبعا)
ومن مدة تقريبا لاحظت أن الظاهرة انتقلت من الشارع لتعمر أروقة الفايسبوك، فلم تخلو مجموعة بها عدد لا بأس به من المشتركين من هؤلاء الذين يستعطفون ويستدرون الدموع والدراهم من المتصفحين حتى أن أحدهم أنزل منشورا مؤخرا يندد بأفعال طالب عون ومساعدة من هؤلاء واكتشف أنه حساب مزيف ولمّا لم يرضخ لطلباته في الإعانة أسمعه أقذع النعوت والأوصاف.
إن هذه الظواهر الغريبة والمثيرة الّتي ما فتئت تجتاح شعوبنا تبرز التدهور الّذي وصلته مجتمعاتنا والانحدار الذي بلغه الإنسان العربي حيث لم يعد يؤمن بقيمة الأشياء واتخذها هزوا وسخرية ولعبا وأضحى يتبع أقصر الطرق وأسهلها للتحصيل مهما كان مُؤادها ومآلها.
إن هؤلاء المشردين والذين يعانون من نقص الإحاطة الإجتماعية والرعاية النفسية عرضة لانتهاك كرامتهم والمتاجرة بهم واستعبادهم من جديد لتوفير لقمة مغمسة في الذل وسقف يستأمنون به من غوائل الطبيعة واجتياحاتها وعلى الدولة التي لا تراهم أن تخرج طواقم عمالها الاجتماعيين لتتبعهم والبحث وراء اضطرارهم لمد أيدهم وإذلال أنفسهم هكذا ثم العمل على توفير ما يساعدهم وينتشلهم من هذا العالم الغريب.
________________________________________________
بلال عرباوي ٢٠٢١/٠٢/٠٧
تعليقات
إرسال تعليق